كما تعج الدنبا بالأثرياء الذين ينعمون برغد العيش فإنها كذلك مليئة بالفقراء والمساكين الذين يبحثون عن لقمة العيش ويقيمون في منازل لا تجد فيها ولا بصيصا واحدا من النور ، انه حقا لشىء تنفطر لرؤيته الأكباد . وقد رأيت مثل ذلك عند صديقي احمد الذي توفي والده فساءت ظروفه العائلية الى حد الفقر ولم تستطع امه دفع ديون والده المتراكمة وهي الآن بين المطرقة والسندان لا تدري ما تصنع ، وقد اوصلها هذا الحد من الجزع والحيرة الى توهمها بـأن زوجها مازال حيا وان ابنها لم يولد بعد ولكنها احيانا تعود الى رشدها . وقد اثر في ذلك كثيرا مما دفعني إلى ان اصلح الأمور فاستشرت والدي ان يعطياني مبلغا ماليا فأبيا في البداية ضنا منهما أنني سأقتني شيئا تلبية لرغباتي ولكنني قصصت عليهما كامل الحكاية فوافقا مرحبين. وفي الغد توجهت مع ثلة من رفاقي الى منزل صديقنا احمد فوجدناه جالسا على كرسي امام مكتبه يراجع دروسه اما امه فقد استقبلتنا ببشاشة ودعتنا للجلوس . فبادرنا احمد قائلين : " ها قد احضرنا لك هدية ونرجو ان تنال اعجابك " .
وأخرجت من جيبي المبلغ المالي وقدمته لأحمد لكنه رفضه فقلنا له :" لا يا احمد لا تظن أننا نعدك فقيرا اومحتاجا لكن انت في حاجة ماسة الى هذا المبلغ فقد مات والدك رحمه الله وقد ترك ديونا كثيرة عجزت امك عن تسديدها وهي الآن في حالة يرثى لها وقد تفقدها هي الأخرى ، اذا مازالت تتوهم وتظن ان ماضيها هو حاضرها ." فقبله بعد تلكىء ثم اثنى علينا واغرورقت عينا الأم من فرط السرور.